طرح الإشكال:
يمثل العنف العدو المعلن لكل دولة. فما من دولة في الماضي أو الحاضر إلا ورفعت شعار استتباب الأمن والنظام والعدالة والحق ، وبعبارة أخرى محاصرة نواتج العنف من رعب وفوضى وظلم ، ولكن هل يمكن للدولة أن تحاصر العنف وتواجهه إلا بعنف مضاد أشد هولا ؟ وفي هذه الحالة كيف نضمن مشروعية هذا العنف وقد غدت الدولة خصما وحكما في نفس الوقت ؟
معالجة الإشكال:
1- الدولة واحتكار الاستعمال المشروع للعنف
من المفيد في البداية أن نرفع بعض اللبس: لا تمثل الدولة المصدر الوحيد للعنف، فالمجتمع ينتج ويفرز بدوره عنفه الخاص، سواء تعلق الأمر بالعنف المعزول للأفراد كالمجرمين أو عنف الجماعات ضد بعضها البعض بسبب الطابع الانقسامي للمجمتع ( انقسامه إلى طبقات اقتصادية، أحزاب سياسية، إثنيات، مشجعي الفرق الرياضية...)
ورغم أن الدولة تعلن العنف عدوها اللدود، فإنها لا تستطيع مع ذلك مواجهته إلا بمثله أي بعنف مضاد، ولذلك لم يجد ماكس فيبر من خاصية يعرف بها الدولة غير هذه الخاصية: "احتكار الاستعمال المشروع للعنف". صحيح أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة للدولة لكنه وسيلتها الخاصة بحيث تقوم بينها وبينه علاقة حميمة، خصوصا بالنسبة للدولة المعاصرة التي خلقت لنفسها طبقة بيروقراطية ينفصل فيها المنصب عن الموظف الذي يسميه فيبر "خادم الدولة الحديثة"، فغدت الدولة من حيث هي أجهزة متمايزة عن المجتمع، مما اقتضى تجريد جميع أفراد المجتمع وهيئاته من حق استخدام العنف: وهكذا لم يعد هناك سيد ليجلد عبده أو إقطاعي يعاقب أقنانه، أو زوج ليضرب زوجته وأبناءه، وتزامن كل ذلك مع نزع الطابع العنيف عن العقوبات القضائية الماسة بالسلامة الجسدية والاكتفاء بتلك العقوبات السالبة للحرية.
2- الدولة والعنف: علاقات ملتبسة
لا مراء في أن الدولة المعاصرة تدعي لنفسها قانونيا احتكار الاستعمال المشروع للعنف، ولا يوجد اعتراض على مبدأ الاحتكار في حد ذاته، بيد أن ممارستها لهذا الشيء المحتكر لا تخلو واقعيا من مفارقات حتى في أكثر الدول ديموقراطية.
تتعلق المفارقة الأولى بثنائية الشرعية والمشروعية: من اليسير على الدولة أن تثبت أن العنف الممارس ضد فرد أو جماعة كان شرعيا محتجة بحفظ النظام أو استباق المخاطر... ولكن هل كان عنفا مشروعا؟ بل هل كان ضروريا؟ وفي هذه الحالة، هل مورس ضمن الحدود التي لا تتعارض فيها مع حقوق الإنسان وكرامته؟
تقحمنا هذه الأسئلة في قلب المفارقة الثانية المتعلقة بكمية العنف اللازم لمواجهة عنف الأفراد والجماعات: كيف يمكن تقدير كمية العنف لوقف عنف مشجعي فريق رياضي غاضبين؟ هل يحتاج الأمر إلى عنف أكبر من عنفهم أم أقل منه أو مساو له ؟ تلك هي الأسئلة التي تواجه السلطة القضائية باستمرار.
ومن جهة أخرى، وبسبب احتكارها وتكديسها لوسائل وتقنيات العنف المعززة بتكنلوجيا تزداد تطورا يوما بعد يوم، تتحول الدولة إلى نوع من الليفياتان/التنين، إلى عنف بدون حق خصوصا في غياب إمكانية اللجوء إلى قاض ضمن فصل واضح للسلطات.
وأخيرا فإن احتكار الدولة للعنف المشروع لا يكتسي كامل معناه عند فيبر إلا من واقعة استقلالها عن المجتمع وتناقضاته، ولكن ما حقيقة استقلال الدولة عن المجتمع وحيادها؟ هل تقتصر وظيفتها على التنظيم والتدبير المحايدين والمستقلين عما يعرفه المجتمع من نزعات وانقسامات وتناقضات؟
تشكك الماركسية في هذه الاستقلالية المزعومة، لتخلص أن العنف المحتكر من قبل الدولة لن يكون مشروعا أبدا في ظل مجتمع منقسم طبقيا. ذلك إن تناقض المصالح الطبقية وما ينجم عنه من صراع يهدد بتيديد المجتمع قد فرض الحاجة إلى الدولة كسلطة عليا تضع نفسها ظاهريا فوق المجتمع لتقلل من حدة الصراع وتبقيه ضمن حدود النظام أي فرملة التناقضات القائمة بين طبقات المجتمع. غير أن الدولة وقد تولدت في قلب الصراع، فلن تكون سوى دولة الطبقة المسيطرة اقتصاديا وأداة أخرى من أدوات تيسير مهمة الاستغلال بالوسائل العنيفة ان اقتضى الأمر. إنها عنف طبقة ضد أخرى
ليست هناك تعليقات