من الدلالات إلى الإشكاليةإن مفهوم الطبيعة من المفاهيم التي تختلف دلالاتها من مجال إلى آخر : ففي التمثل الشائع، غالبا ما يفيد مفهوم الطبيعة المساحات الخضراء والمجال الإيكولوجي بصفة عامة. كما يستعمل مصطلح "طبيعي" للدلالة على الأشياء التي لم تدخل عليها صناعة والتي لم تشبها مواد كيماوية، فإلى هذا يشير غالبا مصطلح "منتوج طبيعي". وفي الاصطلاح اللغوي فإن لفظ "الطبيعة" في اللسان العربي يشير إلى الفطرة، والجبلة والخلقة ..، ويقترن لفظ "الطبع" ويستعمل غالبا للإشارة إلى الجانب السيكولوأخلاقي عند الأفراد. وفي الاصطلاح الفرنسي فإن لفظ Nature يجمع بين جميع المدلولات المشار إليها آنفا علاوة على المعنى العلمي لمفهوم الطبيعة. أما في الاصطلاح اليوناني، فإن لفظي "الفزيقا" و"الفيزيس" يشيران إلى تلك القوة الكامنة في الأشياء والمسؤولة عن نموها. وهذا ما يبين أن المعنى اليوناني لمفهوم الطبيعة يقترب كثيرا من المعنى الفلسفي (اليوناني). فهذا أرسطو يقرن بين الطبيعة والماهية، حيث يعتبر الطبيعة هي تلك الماهية الكامنة في الأشياء التي هي علة الأشياء ومبدأها. هكذا يميز أرسطو بين الأشياء التي لها طبيعة (أو ماهية) والتي ليست لها طبيعة : فالأولى هي الأشياء التي توجد بذاتها، والثانية هي الأشياء التي توجد بغيرها. فالطبيعة هي علة الأشياء ومبدأ كونها وفسادها. أما التمثلات الفلسفية الحديثة، فإنها تختلف حسب درجة تأثرها بالعلم. وبناء عليه يحسن بنا تحديد مفهوم الطبيعة علميا. إن الطبيعة في الاصطلاح العلمي مفهوم عام يشمل جميع أشكال المادة الجامدة وأشكال المادة العضوية الحية ويشمل في ذات الوقت القوانين المنظمة لهما. هكذا يتضح أن الإنسان – في عضويته – ينتسب إلى الطبيعة، وهنا تبرز الإشكالية الفلسفية لهذا الدرس : ما هي حدود العلاقة بين "الطبيعة الإنسانية" والطبيعة ؟ ما الذي يلعب الدور الأساسي في إنسانية الإنسان ؟ هل الطبيعي أم الثقافي ؟ كيف كان أصل الإنسان ؟ أو بتعبير آخر كيف كانت "حالة الطبيعة"؟ الطبيعة الإنسانيةإن الفلسفات التقليدية غالبا ما تحدد الطبيعة الإنسانية من خلال تقديم تعاريف شمولية من نوع "الإنسان حيوان عاقل" أو "الإنسان حيوان ناطق" ..إلخ. وهي تعاريف ماهوية ترتكز على جميع الخصوصيات التي توجد في الإنسان والتي يتميز بها عن باقي الموجودات. بمعنى أنها تعاريف جامعة مانعة، لأنها تعتمد في بنائها على الجنس والنوع. ونظرا للجدل الذي يثيره هذا النوع من التعاريف، راح الفلاسفة يعتمدون في تحديدهم للطبيعة الإنسانية على معايير أخرى. فهذا إريك فايل E. Weil – مثلا – يرى أن الطبيعة الإنسانية، لا تتجلى في الوجود البيولوجي للإنسان، وإنما هي في النفي. بمعنى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكلم لكي يقول : "لا". فالإنسان يرفض باستمرار وضعه الراهن، إلا أنه – حسب إريك فايل – يجهل ما يريده. أما روسو J.J. Rousseau فإنه يرى أن دخول الإنسان إلى عالم الثقافة أفسد طبيعته. إن الطبيعة الإنسانية تتصف بالاكتمال، لذا فإن طبيعته الأصل توجد خلف مظاهر التطور ولا يمكن الوصول إليها بسهولة. أما الأطروحة الوجودية، فإنها تختلف عن جميع الأطروحات السابقة ؛ حيث يعتقد سارتر J.P. Sartre أن الوجود أسبق من الماهية : فالإنسان يوجد أولا ثم يحدد ماهيته فيما بعد. فالإنسان هو الذي يختار ما يريد أن يكون بكامل الإرادة والحرية. إن الماهية البشرية غير موجودة قبل الوجود الإنساني، وإنما الإنسان مشروع. هذا في الوقت الذي أكد فيه فرويد S. Freud، أن الطبيعة الإنسانية هي ضرب من التفاعل بين الطبيعي والثقافي، بين الفطري والمكتسب. فالإنسان يأتي إلى الوجود وهو عبارة عن الهو، ثم ما يلبث أن يتشكل لديه الأنا والأنا الأعلى بفعل الاحتكاك بالمجتمع. ثم تدخل هذه المكونات في صراع بنها فيتضخم عند الإنسان ما يعرف باسم اللاشعور. فالطبيعة الإنسانية – حسب التحليل النفسي – هي شخصيته الفردية التي تميزه عن الآخرين، في تفاعله مع مكوناته الداخلية ومع المحيط الخارجي. إن الأطروحة الفرويدية تضطرنا إلى طرح السؤال التالي : ما الذي يلعب الدور الأساسي في شخصية الإنسان ؟ هل الفطري أم المكتسب؟ جدلية الفطري والمكسبإن الفطري هو ذلك الجانب البيولوجي/الغريزي الذي يولد مع الإنسان. أما المكتسب فيتمثل في جميع أشكال السلوكات الثقافية التي خلقها الإنسان من خلال تفاعله مع أمثاله. وإذا كان إدغار موران E. Morin يرى أن الإنسان كائن بيولوجي كلية، وكائن ثقافي كلية ؛ فإن التصورين، البيولوجي الصرف والسوسيوثقافي، لا يشاطرانه الرأي. إن الطرح البيولوجي يعتبر الإنسان كائنا بيولوجيا بالدرجة الأولى، لأن جميع مكوناته وتشكيلاته المستقبلية محددة بالوراثة. فالصبغيات والجينات تحمل جميع ما سيؤول إليه الإنسان في المستقبل. إذا كان منديل Mendel تحدد انتقال الخصائص الوراثية من جيل إلى آخر، فإن كثيرا من البيولوجيين يؤكدون تعميم ذلك على السلوكات النفسية. وبناء على ذلك تقلص النظرة البيولوجية من دور المحيط، حيث يرى أغست فايزمان A. Weismann أن المحيط يؤثر على الخلايا الجسمية soma ولا يمكن أن يؤثر، إلا باحتمال ضعيف جدا، على الخلايا الجنسية germen المسؤولة عن انتقال الخصائص الوراثية. أما النظرة السوسيوثقافية، فإنها تعتبر الإنسان منتوجا ثقافيا بالدرجة الأولى. فير ى دوركايم Durkheim أن الظواهر الإجتماعية بمثابة "أشياء"، فلا يمكن للإنسان أن يتجاهلها وإلا تعرض للقهر الذي يمكن أن تمارسه عليه. ومن ثمة فإن السلوكات السيكولوجية لايمكن أن تفسر بعوامل بيولوجية أو فطرية لأنها نتاج اجتماعي. هكذا يرى لوسيان مالصون L. Malson – من خلال أطروحته "الأطفال المتوحشون" – أن عزل الطفل البشري عن بني جنسه، سيجعل منه كائنا غريبا ؛ لأنه ليست هناك غريزة خاصة بالنوع البشري. فإنسانية الإنسان تتوقف على وجوده داخل محيط ثقافي. وفي هذا الإطار تطرح إشكالية أخرى نفسها وهي : كيف كان الإنسان قبل أن يدخل إلى عالم الثقافة ؟ أو بتعبير آخر، كيف كان الإنسان قبل أن يعرف الحياة الاجتماعية؟ حالة الطبيعة ومشكلة الأصليرى روسو أن "حالة الطبيعة" حالة افتراضية، ولا يمكن لأي واحد أن يزعم أنه استطاع تحديدها بدقة. وإنما الشيء الأكيد هو أن دخول الإنسان إلى عالم الثقافة أفسد حالة الطبيعة. فالحياة الاجتماعية بنيت على الأنانية والتسلط والمكر والخديعة، هكذا نستطيع القول إن "حالة الطبيعة" كانت "حالة خير" مقارنة مع ما آلت إليه الإنسانية. إن الإنسان موجود حر وبمحض إرادته اختار أن يوجه حياته تلك الوجهة، لكن بوسعه أن يخرج من حالة الصراع من خلال إقامة الحياة الاجتماعية على أساس تعاقد اجتماعي يحتكم إلى "سلطة الشعب"، حيث يختار الشعب من ينوبون عنه ويحكمون باسمه طبقا لقوانين ديموقراطية. أما هوبس T. Hobbes، فيرى رأيا مخالفا تماما لطرح روسو. حيث يعتقد هوبس، "أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان". فالإنسان أناني بطبعه، ومن ثمة فإن جميع سلوكاته تؤطرها دوافع عدوانية. فأخلاق الإنسان تخضع لتوجهات ثلاث : التنافس، الحذر، الكبرياء. وبما أنه يستحيل على الإنسان، أن يعيش باستمرار تحت رحمة "قانون الغاب" ؛ فإن الناس فضلوا أن يدخلوا عالم الحياة الاجتماعية (عالم الثقافة) بأن أعلنوا نوعا من السلم الاجتماعي فيما بينهم، وذلك بأن يتنازل كل واحد عن أنانيته، ليعيشوا تحت رحمة أنانية فرد واحد يحكمونه عليهم. إلا أن التوجه العلمي، فيختلف عن الأطروحات السابقة في اعتباره أن التفكير في "حالة الطبيعة"، يدفعنا في متاهات فلسفية يصعب الخروج منها. ويرى أن فكرة "حالة الطبيعة" لا تعدو أن تكون مجرد طروحات فلسفية لعبت دورا تاريخيا، لأنها حاولت أن تفسر أوضاعا اجتماعية معينة. هكذا يرى ليفي ستروس Lévi-Strauss أن الإنسان كائن بيوثقافي، ويصعب أن نحدد بسهولة الجانب الفطري من الجانب المكتسب ؛ إلا أن المنهج العلمي يحتم وضع قانون بموجبه نستطيع ذلك. هكذا يرى ليفي ستروس، أن كل ما هو عام ومشترك فهو طبيعي، وكل ما يقوم على قاعدة، ويتميز بالخصوصية، ويشكل استثناء، فإنه ينسب إلى الثقافة. علما بأن التحليل العلمي لظاهرة القرابة (أو المصاهرة) يؤكد أن الثقافي – في الإنسان – هو الذي يوجه البيولوجي ويؤطره.
ليست هناك تعليقات