بسم الله الرحمان الرحيم
تقديم عام للمجزوءة
لقد حاولت الفلسفة خلال تاريخها الطويل صياغة قضايا المعرفة بطريقة تسمح بفهم الشروط التي تقوم عليها، متخذة من الحقيقة غاية قصوى لكل عملية معرفية. وذلك بعد أن تقطع مع الرأي والمعرفة العامية للواقع، والتي تتميز بالسطحية، لكي تبني معرفة موضوعية وجوهرية متمثلة في الحقيقة، باعتبارها مطابقة الفكر لذاته على المستوى المنطقي، ومطابقة الحكم لموضوعه على المستوى المادي والواقعي. لقد اتخذت الحقيقة في التاريخ الحديث شكلا علميا، حيث وضع المجتمع العلمي المعاصر قواعد للبحث الموضوعي، وذلك باللجوء للتجربة والملاحظة، والقياس… التي تحول الفرضيات إلى قوانين علمية تعبر عن العلاقات الثابتة والمنتظمة بين الظواهر. إلا أن انتقال المعرفة العلمية من دراسة المادة إلى دراسة الإنسان ذاته، بما يتميز به من إرادة وحرية في الاختيار تجعله ينفلت من القوانين الحتمية، دفع العلوم الإنسانية إلى مراجعة مناهجها، وأدوات اشتغالها
وهذا ما يجعلنا نطرح قضية المعرفة كإشكال فلسفي متعدد الأبعاد من خلال صياغة الأسئلة التالية
ما هي الحقيقة؟
ما طبيعة العلاقة بين النظرية والتجربة؟
أين تكمن خصوصية الدراسة العلمية في العلوم الإنسانية؟
الطرح الإشكالي
يعتبر مفهوم الحقيقة المفهوم المحوري في التفكير الفلسفي، ما دامت الفلسفة قد ظهرت في أول أمرها كبحث عن الحقيقة، ويمكن ملاحظة ذلك حتى على مستوى اسمها: « محبة الحكمة »، فليس للحكمة معنى آخر سوى الحقيقة. وهو مفهوم يثير قضايا فلسفية تتمثل في العلاقة الإشكالية التي تربط الرأي بالحقيقة، إضافة إلى تعدد معايير الحقيقة وتنوعها. وأخيرا تناقض التصورات الفلسفية حول قيمة الحقيقة، وهذا ما يمكن التعبير عنه بهذه الأسئلة
ما طبيعة العلاقة التي تربط الحقيقة بالرأي؟
ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها لتمييز الحقيقة عن غيرها من الأوهام والأفكار الظنية أو الخاطئة؟
هل الحقيقة غاية في ذاتها أم أنها مجرد وسيلة لتحقيق غايات أخرى؟
أولا: الحقيقة والرأي
أ- التطابق بين الحقيقة والرأي
لا فرق في الطبيعة- في نظر ماكس بلانك- بين الاستدلال العلمي والاستدلال العادي اليومي (الرأي)، وإنما الفرق بينهما في درجة النقاء والدقة. وهذا الاختلاف شبيه، شيئا ما، بالاختلاف بين المجهر والعين المجردة. إن التمثل الذي يقدمه العلم عن العالَم لا يختلف في الطبيعة عن التمثل الذي تقدمه عنه الحياة اليومية، وإنما يختلف عنه في رهافة بنيته ودقتها. إن نسبة ذلك التمثل بالنسبة للعالَم إلى تمثله السائد في الحياة اليومية، هو كنسبة تمثل الراشد للعالَم إلى تمثل الطفل له
وما يوضح حقيقة هذا الحكم- حسب بلانك- هو أن الأمر هنا يتعلق بصورة من صور المنطق. فالمنطق العلمي ليس في وسعه أن يستنبط من مقدمات معطاة، شيئا مغايرا لما يستطيع منطق الحس المشترك العادي أن يستنبطه
ب- التقابل بين الرأي والحقيقة
إن الرأي من الناحية النظرية، دائما على خطأ- في نظر غاستون باشلار- لأنه لا يفكر ما دام يعمل فقط على ترجمة حاجات الإنسان ورغباته إلى معارف، ويعين الأشياء حسب فائدتها. وهكذا يمتنع عن معرفتها حقا. فلا يمكن تأسيس أي معرفة على أساس الرأي، بل ينبغي هدمه، لأنه أول عائق يلزمنا تخطيه لبناء الحقيقة العلمية التي تنبني على أساس البداهة العقلية. إن شرط الفكر العلمي الأساسي هو أن نعرف كيف نطرح المشاكل، لأن المعرفة بالنسبة للفكر العلمي هي جواب عن سؤال، وإن لم يكن ثمة سؤال، فمن غير الممكن قيام أية معرفة علمية
لا شيء يُعطى، حسب باشلار، بل الحقيقة العلمية تُبنى وتُشيد
ثانيا: معايير الحقيقة
أ- معياري: الحدس والاستنباط
إن المعايير التي نتمكن بواسطة من الوصول إلى حقيقة الأشياء دون الخوف من الوقوع في الخطأ- في نظر رونيه ديكارت- هما اثنان فقط: الحدس والاستنباط
الحدس: هو إدراك عقلي مباشر لموضوع المعرفة، حيث ينتج العقل الحقائق البديهية، أي كل فكرة بسيطة واضحة بذاتها، ولا تحتاج لبرهان، تصدر عن نور العقل كذهن خالص ويقظ. وهكذا يمكن لكل واحد أن يدرك بالحدس أنه يفكر، وأنه موجود
الاستنباط: ونقصد به كل ما يتم استنتاجه بالضرورة من قضايا أخرى، معلومة من قبل بنوع من اليقين. أي استخراج نتيجة ضرورية كانت مجهولة، من مقدمات يقينية معلومة. والاستنباط عملية متتالية، تتسلسل فيها القضايا بشكل يقيني، كل واحدة منها مرتبطة بسابقاتها
ب- الحقيقة معيار ذاتها
من له فكرة صادقة- في نظر باروخ اسبينوزا- يعرف في الوقت نفسه أن له فكرة صادقة ولا يمكن أن يشك في حقيقة معرفته. ذلك أن كل من يملك فكرة صادقة لا يجهل أن الفكرة الصادقة تتضمن أعلى يقين. فأن تكون لدينا فكرة صادقة، لا يعني سوى معرفة شيء معرفة كاملة أو على أحسن ما يمكن. فليس هناك معيارا للحقيقة أشد وضوحا وبداهة من الحقيقة ذاتها باعتبارها فكرة صادقة. فمثلما يعرف النور بذاته، ويعرف به الظلام، كذلك الحقيقة، حسب اسبينوزا، هي معيار ذاتها ومعيار الكذب
ثالثا: الحقيقة بوصفها قيمة
أ- قيمة الحقيقة والمنفعة
إن امتلاك الحقيقة- في نظر وليم جيمس- يعني امتلاك أدوات ثمينة للعمل. إذ نعيش وسط وقائع تحتمل أن تكون مفيدة كما تحتمل أن تكون مضرة لنا إلى أقصى حد، وبالتالي فالحقيقة هي الأفكار التي تميز لنا الوقائع النافعة حتى نستفيد منها، عن الوقائع الضارة حتى نتجنب مساوئها. وهنا يظهر أن امتلاك الحقيقة ليس غاية في ذاتها، بل مجرد وسيلة لإشباع حاجات الإنسان الحيوية
إن قيمة الحقيقة- بالنسبة للفلسفة البرغماتية- تتمثل بكل بساطة في ما هو مفيد لفكرنا وسلوكنا معا
ب- الحقيقة غاية في ذاتها
إن الواجب الأخلاقي هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع البشري، وهذا الواجب يقتضي- في نظر إيمانويل كانط- أن يتوخى المرء الصدق (قول الحقيقة) في كل تصريحاته وأقواله في جميع الظروف والملابسات بلا استثناء، ودون ربط قول الحقيقة لا بالمنفعة ولا بالمضرة. ويذهب كانط إلى حد اعتبار أن من يكذب على مجرمين يسألونه عما إذا كان صديقه الذي يتعقبونه ملتجأ في منزله، يكون قد ارتكب جريمة في حق الإنسانية جمعاء، لأن الكذب وإن جلب المنفعة للصديق. فإنه يكون قد أخل بالواجب الأخلاقي الذي هو أساس المجتمع البشري
إن قول الحقيقة- بالنسبة للفلسفة الأخلاقية- هو غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة، لدا لا يجب ربطه لا بالمنفعة ولا بالمضرة
استنتاجات عامة
هناك تقابل بين التصور الفلسفي التقليدي، والتصور الفلسفي المعاصر للحقيقة، فإذا كانت الحقيقة: واحدة، ثابتة، مطلقة، موضوعية، نظرية… في التصور الفلسفي التقليدي، فإنها: متعددة، متغيرة، نسبية، ذاتية، عملية… في التصور الفلسفي المعاصر
كون الحقيقة قيمة يعني أنها ما يرغب فيه الإنسان، ويفضله، ويتخذه مثلا أعلى يسعى نحوه، سواء على مستوى الفكر النظري، أو على مستوى الممارسة العملية، أو على المستوى الأخلاقي.فالحقيقة إذن قيمة فكرية، وقيمة عملية، وقيمة أخلاقية
إن عملية البحث عن الحقيقة قد انطلقت منذ أن وعى الإنسان ذاته في هذا الوجود، لكننا لم نجدها لحد الآن. فكلما وجدنا الحقيقة واطمأنينا لها، إلا واكتشفنا بعد ذلك أنها خاطئة. أفلا يعني هذا أننا نبحث عن وهم؟ أي عن حقيقة غير موجودة أصلا؟
—————————————————————————————————————————————-
الطرح الإشكالي
من المباحث الأساسية في الفلسفة المعاصرة نجد مبحث الإبستمولوجيا (الدراسة النقدية للمعرفة العلمية)، لقد ارتكز هذا المبحث على مجموعة من المفاهيم الفلسفية المرتبطة بالمجال العلمي وعلى رأسها مفهومي: النظرية والتجربة اللذان يطرحان عدة قضايا فلسفية سواء على مستوى النظرية أو على مستوى التجربة، أو على مستوى العلاقة بينهما. إضافة إلى تعدد المعايير لتمييز النظرية العلمية عن باقي أنواع النظريات الأخرى، وهي قضايا يمكن أن تتخذ شكل أسئلة فلسفية منها
ما هي شروط التجربة؟ وما هي خصائص النظرية؟
ما طبيعة العلاقة بينهما؟ وأي منهما يؤكد صحة الآخر؟
ما هي المعايير التي يمكن اعتمادها لتمييز المعرفة العلمية؟
أولا: التجربة والتجريب
أ– خطوات المنهج التجريبي
إن المنهج التجريبي يفترض في العالِم – حسب كلود بيرنار – الإحاطة بشرطين
أن تكون لديه فكرة (فرضية) يخضعها للفحص في ضوء الوقائع
أن يلاحظ بساطة الظاهرة الماثلة أمامه، ملاحظة أكثر شمولية
على الملاحظ أن يكون بمثابة آلة تصوير، أثناء معاينته للظاهرة، تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة، حيث يجب أن يلاحظ بدون فكرة مسبقة
إن العالِم المتكامل هو الذي يجمع بين الفكري النظري والممارسة التجريبية عبر الخطوات التالية
يعاين واقعة ، أي الملاحظة
ميلاد فكرة (فرضية) في ذهنه تبعا للمعاينة
الاستدلال على الفكرة، بعد معاينتها ذهنيا، وذلك باللجوء إلى التجربة
تنتج عن التجربة ظواهر جديدة عليه أن يلاحظها، وهكذا دواليك
إن ذهن العالم – حسب بيرنار – يشتغل بين ملاحظتين، تمثل الملاحظة الأولى منطلق الاستدلال العلمي، وتمثل الملاحظة الثانية خلاصة الاستدلال ، أي التجربة
ب– التجريب العلمي
كثيرا ما تم الحديث عن التجربة التي شكلت إحدى السمات الأكثر تمييزا للعلم الكلاسيكي. غير أن في الأمر غموضا، بالنسبة لألكسندر كويري. فالتجربة بمعناها الخام والملاحظة العامية، لم تلعب أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، اللهم إلا دور العائق. أما التجريب، وهو المساءلة المنهجية للطبيعة، فيفترض افتراضا مسبقا اللغة التي يطرح من خلالها العالِم أسئلته، حيث يسائل الطبيعة بلغة رياضية ، أو بتعبير أدق بلغة هندسية، حسب كويري
ثانيا: العقلانية العلمية أو النظرية
أ– التجربة تـحدد النظرية
إن النظرية الفيزيائية يتم بناؤها – في تصور بيير دوهيم – من خلال أربع عمليات متتالية وهي
اختيار الخصائص الفيزيائية البسيطة، والتعبير عنها برموز رياضية، وأعداد، ومقادير
الربط بين هذه المقادير بواسطة عدد من القضايا التي تستخدم كمبادئ لاستنتاجاتنا، هذه المبادئ يطلق عليها اسم الفرضيات
تركيب فرضيات النظرية حسب قواعد التحليل الرياضي، وأن نستنبط منها نتائج ضرورية
إن النتائج التي استخرجناها من الفرضيات، هي التي تشكل النظرية الفيزيائية الجديدة
وهكذا فالنظرية الصحيحة – حسب دوهيم – هي التي تعبر بشكل مُرضي عن مجموعة من القوانين التجريبية، أما النظرية الخاطئة فهي التي لا تتوافق مع القوانين التجريبية
ب– النظرية تـحدد التجربة
إن نسقا كاملا للفيزياء النظرية يتكون من مبادئ وقوانين تربط بين تلك المبادئ، وقضايا مستنبطة منها بشكل ضروري بواسطة الاستنباط المنطقي. هذه النتائج هي التي يجب أن ترتبط بالتجربة. وهكذا حدد ألبير آينشتاين لكل من العقل والتجربة مكانتهما في نسق الفيزياء النظرية. فالعقل يمنح النسق بنيته. أما المعطيات التجريبية وعلاقاتها المتبادلة فيجب أن تطابق القضايا الناتجة عن النظرية. إن البناء الرياضي الخالص، وليس التجربة ، هو الذي يمكننا من اكتشاف المبادئ والقوانين التي تسمح بفهم ظواهر الطبيعة
إذا كانت الوقائع التجريبية لا تتطابق مع النظرية، فينبغي تغيير الوقائع وليس النظرية حسب آينشتاين
ثالثا: معايير علمية النظريات العلمية
أ– معيار القابلية للتجريب
إن الواقعة التجريبية لا يمكن أن تكون علمية – في نظر رونيه طوم – إلا إذا استوفت شرطين هما
أن تكون قابلة لإعادة الصنع، وهذا يتطلب أن تكون محاضر إعداد التجربة وإجرائها دقيقة بما يكفي للتمكن من إعادتها في أزمنة وأمكنة أخرى
أن تثير اهتماما قد يكون تطبيقيا أو نظريا، يتمثل الاهتمام التطبيقي في الاستجابة لحاجيات بشرية. أما الاهتمام النظري فيعني أن البحث يدخل ضمن إشكالية علمية قائمة
في هذه الحالة، يكون الهدف من التجريب – حسب طوم – هو التحقق من صدق فرضية ما (نظرية) تتضمن قضايا عقلية يتم التسليم بوجودها، كالعلاقات السببية، أي الربط بين السبب والنتيجة
ب– معيار القابلية للتكذيب
أن القابلية للتكذيب (أو التفنيد) – في نظر كارل بوبر – هو معيار التمييز بين النظريات التجريبية والنظريات اللاتـجريبية، لذلك يطلق عليه كذلك معيار القابلية للاختبار. إن اختبار نظرية ما، يعني محاولة تبين العيب فيها، وبالتالي فإن النظرية التي نعرف مقدما أنه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها، لهي نظرية غير علمية لأنها نظرية غير قابلة للاختبار. إن نظرية نيوتن في الجاذبية، قابلة الاختبار، لأنها تتنبأ بانحرافات معينة عن المدارات الكوكبية عند كبلر، وهذا التنبؤ يمكن تفنيده. ونظرية آينشتاين في الجاذبية قابلة للاختبار كذلك، لأنها تتنبأ بانحرافات معينة عن المدارات الكوكبية عند نيوتن، وهذا التنبؤ يمكن تفنيده مجددا
استنتاجات عامة
إن العلاقة التي تربط النظرية بالتجربة، علاقة جدلية ( أي علاقة تأثير وتأثر ). فالنظرية تؤثر في التجربة من خلال تأطيرها وتوجيهها عندما تـحدد عناصر وتفاعلات التجربة. والتجربة تؤثر في النظرية من خلال تصحيحها، عندما تكتشف الأخطاء التي تتضمنها. وبذلك تتقدم النظرية. وهذا ما يجعل المعرفة العلمية، معرفة متطورة، تتطور بفعل هذا الجدل بين النظرية والتجربة
—————————————————————————————————————————————-
علمية العلوم الإنسانية
الطرح الإشكالي
إن كان العلم يستنبط قوانين ضرورية وحتمية في العلوم الدقيقة، فإن هذا الأمر يصبح متعذرا على مستوى العلوم الإنسانية. لأن الموضوع هذه المرة، هو كائن يتميز بالوعي والإرادة والقدرة على الاختيار، مما يجعل العلمية تتميز في هذا المجال بالاحتمال والترجيح، نتيجة عدة قضايا تتمثل في العلاقة غير الواضحة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. إضافة إلى صعوبة التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية. وأخيرا علاقة العلوم ألإنسانية بالعلوم الحقة على مستوى المنهج. وهذا ما يمكن طرحه من خلال الإشكالات التالية
ما طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالموضوع في العلوم الإنسانية؟
هل العلوم الإنسانية قادرة على فهم وتفسير والتنبؤ بالظواهر؟
ما الدور الذي لعبته العلوم الحقة في العلوم الإنسانية؟
أولا: موضعة العلوم الإنسانية
أ– عوائق موضعة الظاهرة الإنسانية
إن العلوم الإنسانية – في نظر جان بياجي – لها وضعية أكثر تعقيدا مقارنة بالعلوم التجريبية، لأن الذات مُلاحِظة لذاتها ولغيرها، ومجربة على نفسها وعلى غيرها، لهذا تـُخْلَق وضعية التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية، مقارنة بالعلوم الطبيعية، حيث أصبح من المعتاد الفصل بين الذات والموضوع. إن عملية إزاحة تمركز الذات حول ذاتها، والتي هي عملية ضرورية لتحقيق الموضوعية، تكون أكثر صعوبة في الحالة التي يكون فيها الموضوع هو الذات، نظرا لسببين وهما
إن الحد الفاصل بين الذات المتمركزة حول ذاتها، والذات العارفة يكون أقل وضوحا عندما تكون أنا الملاحظ جزء من الظاهرة التي يجب عليه أن يلاحظها ويدرسها من الخارج
إن الملاحظ يكون أكثر ميلا للاعتقاد في معرفته الحدسية بالوقائع لانـخراطه في هذه الأخيرة
هكذا فالعالِم – في نظر بياجي – لا يكون أبدا معزولا، بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي وإيديولوجي
ب– مفارقة علاقة الذات بالموضوع
إن كل باحث هو عضو ينتمي لجماعة كبيرة أو صغيرة (سواء كانت طبقة اجتماعية، أو مهنة، أو أمة…)، في نظر فرانسوا بستيان، وبالتالي يكون منخرطا بالضرورة في صراعات صريحة أو ضمنية من أجل الاعتراف، والحظوة، والسلطة، وهي صراعات تحرك المعتقدات والمثل…الخ. وتتمثل الصعوبة لدى الباحث الاجتماعي في كونه لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين يعتبر هذا الانفصال مبدأ كل جهد علمي (الموضوعية). لذلك نجد كل مجهودات مؤسسي العلوم الاجتماعية قامت على مبدأ تباعد الباحث عن جماعته، حيث دعا « دوركايم » إلى اعتبار الوقائع الاجتماعية أشياء، وكذلك توصية « ماكس فيبر » باحترام مبدأ الحياد القيمي
ثانيا: التفسير والفهم في العلوم الإنسانية
أ- التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية
إن العلوم الدقيقة- حسب كلود- ليفي ستروس- تقدمت بفضل عمليتي التفسير والتنبؤ، حيث يمكن لهذه العلوم أن تفسر ظواهر لم تتنبأ بها، كما فعلت الداروينية، كما يمكنها أن تتنبأ بظواهر لا تكون قادرة على تفسيرها، كما يحدث في علم الأرصاد الجوية. أما العلوم الإنسانية، فتجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ، فهي لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا، ولا تتنبأ بيقين تام، لقد أكتفت العلوم الإنسانية، حتى حدود اليوم، بتفسيرات فضفاضة وتقريبية تنقصها الدقة، ورغم أنها مهيأة، لأن تمارس التنبؤ وتطوره، فإن الخطأ كان دائما حليف تنبؤاتها
ومع ذلك فإن العلوم الإنسانية- حسب ستروس- يمكن أن تقدم للذين يمارسونها انطلاقا من نتائجها، شيئا وسيطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة، لكن من غير الفصل بين التفسير والفهم
ب- الفهم في العلوم الإنسانية
إذا كنا نفسر الطبيعة، باعتبارها ظواهر معزولة وخارجية في العلوم الفيزيائية والطبيعية- في نظر دلتاي- فإننا نفهم الإنسان في علم النفس، من خلال فهم حياته النفسية، فعمليات الاكتساب، ومختلف الوظائف العقلية والنفسية وعناصرها تجتمع وتكون كلا يعطى لنا عن طريق التجربة الداخلية. فالكل المعيش هو الأساسي، ولا يتجزأ إلى أجزاء إلا بعد ذلك. وينتج عن هذا أن المناهج التي ندرس بها الحياة النفسية والتاريخ والمجتمع تختلف عن المناهج التي تقود إلى معرفة الطبيعة
إن العلوم الإنسانية الحقيقية- حسب دلتاي- هي التي تبني منهجها بنفسها، انطلاقا من موضوعها
ثالثا: نموذجية العلوم التجريبية
أ- خصوصية المنهج في العلوم الإنسانية
تعتبر العلوم الإنسانية مقارنة بالعلوم الطبيعية- في نظر كل من طولرا/ وارنيي- حديثة النشأة، أما نتائجها فهي قليلة وغير أكيدة لأن الواقع الحي الذي تحاول الإحاطة به (المجتمعات، العقليات، السلوكيات…)، هو أكثر غنى وأقل انتظاما من الظواهر الطبيعية، وبالتالي فإن استخدام العقل في هذه العلوم مطالب بأن يكون حذرا، كما أن الروح العلمية مطالبة بأن تكون أكثر تطورا من مثيلتها في العلوم الطبيعية، حيث تكون التجربة محكا مباشرا وحاسما
ويفترض إدراك الموضوع- حسب طولرا/ وارنيي- أن تكون الذات مستعدة لفهم ما يخالفها ويعتبر آخرها. وفي هذه الحالة، تتمثل الروح العلمية في القدرة على استيعاب التناقض والقدرة على مواجهة ما هو غريب ومزعج لكل تلقائية، أي اللقاء الدائم مع الواقع
ب- خداع النظرة العلمية
إن كل ما أعرفه عن العالَم، ولو كان مصدره العلم- يقول موريس ميرلوبونتي- أعرفه انطلاقا من وجهة نظر خاصة بي، أو أعرفه من خلال تجربتي الخاصة التي بدونها لن تعني رموز العلم أي شيء، لأن العلم يُبنى بكامله على العالم المعيش (أي التجربة الذاتية للأنا) وانطلاقا منه. فأنا الذي أوجد من أجلي أنا، وأنا الوحيد الذي يوجد وجودا متفردا. لا يوجد أحد مكاني ولا أوجد في مكان أحد
وهكذا فإن وجهة النظر العلمية التي أكون بمقتضاها مجرد لحظة من لحظات العالم هي دائما وجهة نظر خادعة، لأنها وجهة نظر يكون العالم حولي حسبها موضوعا، ولا يوجد لأجلي. إن الرجوع إلى الأشياء ذاتها هو الرجوع إلى العالم المعيش قبل أن يكون موضوع معرفة، وهكذا فكل معرفة للإنسان- حسب ميرلوبونتي- هي معرفة ذاتية، لأن العلم يفترض وجود نظرة موضوعية لذات تتعالى عن كل الذوات، هي في الواقع غير موجودة
استنتاجات عامة
إن أكثر المعارف فائدة وأقلها تقدما، من كل المعارف الإنسانية، في الآن نفسه، هي تلك المتعلقة بالإنسان- حسب ج. ج. روسو- إنها أكثر فائدة لأنها تدرس الكائن الوحيد في هذا الكون الذي يملك عقلا ووعيا. وأقلها تقدما لأن زمن نشأتها جاء متأخرا جدا. وهي التي تشكل العلوم الإنسانية
إن العلوم الإنسانية هي علوم مأزومة، لأنها ولدت بأزمتها التي تتمثل، من جهة، في تداخل الذات والموضوع، واضطراب العلاقة بينهما. كما تتمثل، من جهة أخرى، في استعارة مناهج العلوم التجريبية، بدل إبداع مناهج تتواءم وطبيعة موضوعها الذي يتميز بالتعقيد
—————————————————————————————————————————————-
**نموذج علم الاجتماع
الطرح الإشكالي
يمثل علم الاجتماع نموذجا للعلوم الإنسانية بما يطرحه من قضايا نظرية ومنهجية تخص شروط إمكانية علمية العلوم الإنسانية أو استحالتها، إذ يواجه عالم الاجتماع، عندما يريد دراسة المجتمع، عدة مشاكل نظرية ومنهجية ترجع كلها إلى طبيعة علاقة الذات العارفة بموضوع المعرفة، المتميزة بالتعقيد، وبكونها علاقة واعية تتداخل فيها الإرادة والقصد. إليكم الأسئلة
ما هو الموضوع الذي يدرس علم الاجتماع؟
كيف يمكن مقاربة هذا الموضوع؟
ما هي النظريات السوسيولوجية التي تشكل علم الاجتماع؟
أولا: موضوع علم الاجتماع
أ- الواقعة الاجتماعية
توجد في كل مجتمع- حسب إيميل دوركايم- مجموعة من الظواهر، بخصائص واضحة تختلف عن تلك التي تدرسها علوم الطبيعة، فحين أقوم بممارسات دينية، أو عندما أنفذ التزامات التزمت بها، أو أقوم بدوري كزوج أو كمواطن. فإنني أقوم بواجبات تّحدد في استقلال عني، لأنني لست صانعها، بل سبق لي أن تلقيتها بواسطة التربية، أي تحدث داخل القانون والعادات الاجتماعية. هذه الأنماط من السلوك والتفكير والإحساس، تتمتع بقوة إلزامية وإكراهية تجعلها تفرض نفسها على الفرد، حيث توجد عقوبات تواجه كل من حاول خرقها، أو تجاوزها، أو مقاومتها
إذن فالواقعة الاجتماعية- في نظر دوركايم- هي كل طريقة في الفعل، ثابتة، وقادرة على ممارسة إكراه خارجي على الفرد، وتكون عامة في المجتمع، ومستقلة عن إرادة الأفراد
ب- صعوبات تحديد الواقعة الاجتماعية
لقد عارض لوسيان غولدمان تعريف الجريمة- باعتبارها نموذجا للواقعة الاجتماعية- الذي وضعه دوركايم حين كتب: « نلاحظ جميعا وجود أفعال معينة تتميز بخاصية خارجية « موضوعية »، وهي أنه بمجرد ما يتم القيام بها يقوم المجتمع برد فعل خاص بها نسميه العقاب، فنجعل من هذه الأفعال مجموعة قائمة الذات ندخلها تحت لفظ مشترك، فنسمي جريمة كل فعل يُعاقَب على فعله، وهكذا تصبح الجريمة المعرَّفة بهذا الشكل، موضوع علم خاص، هو علم الجريمة ». لأن هذا التعريف في نظر غولدمان يشبه الثوري بالمجرم، وبالتالي تُنسي القارئ حقيقة الثوري، وهنا تكمن صعوبة تحديد الواقعة الاجتماعية
ثانيا: المنهج في علم الاجتماع
أ- المنهج التفهمي
يُظهر السلوك الإنساني، سواء في مظاهره الخارجية أو في عالمه الداخلي، ترابطات وانتظامات أثناء تطوره، هي التي تكون موضوع تأويل تفهمي. وهو سلوك يتميز بما يلي
أولا: إنه سلوك يرتبط بسلوك الغير تبعا للقصد الذاتي للفاعل المعني
ثانيا: يكون هذا السلوك، أثناء تطوره، مشروطا بهذه العلاقة الدالة والبينذاتية، أي بين الذوات
ثالثا: يكون هذا السلوك قابلا للتفسير بطريقة تفهمية انطلاقا من المعنى المقصود ذاتيا من طرف الفاعل
تتأسس المقاربة السوسيولوجية التفهمية- حسب فيبر- على دراسة العلاقات الدلالية النموذجية التي تسم السلوك المعبر عن هذه الظواهر في مظاهرها الخارجية
ب- التفسير الغائي
إن السببية، أي أن شيئا ما يسبب شيئا آخر، أمر ضروري في تفسير الظاهرة الاجتماعية. لكنها في علم الاجتماع مطالبة بتفسير أفعال الفاعلين، في نظر إيان كريب. لأنهم يتأملون أفعالهم، ويتخذون القرارات وفق حسابات معينة، ولهم مقاصد ونوايا.وهو ما يمكن أن نطلق عليه التفسير الغائي: إن النقطة النهائية، أي النتيجة، موجودة هنا سلفا على شكل الرغبة التي لا بد أن توضع موضع التنفيذ بالممارسة. والفعل هنا يفسر بنتيجته النهائية، بمعنى أن النتيجة هي السبب
ثالثا: النظريات الاجتماعية
أ- المدرسة الوظيفية
ترى المدرسة الوظيفية أن المجتمع نظام مُعقَّد تعمل شتى أجزائه سويا لتحقيق الاستقرار والتضامن بين مكوناته، ووفقا لهذه المقاربة، فإن على علم الاجتماع استقصاء علاقة مكونات المجتمع بعضها ببعض وصلتها بالمجتمع برُمّته. ويمكننا على هذا الأساس أن نُحلل، المعتقدات الدينية، والعادات الاجتماعية، بإظهار صلتها بغيرها من مؤسسات المجتمع، لأن أجزاء المجتمع المختلفة تنمو بصورة متقاربة بعض مع بعض
ب- منظور الفعل الاجتماعي
إن نظريات الفعل الاجتماعي تولي قدرا أكبر من الأهمية لدور الفعل والتفاعل بين أعضاء المجتمع. ويبرز دور علم الاجتماع هنا في استيعاب المعاني التي ينطوي عليها الفعل الاجتماعي والتفاعل، والملتزمون بنظرية الفعل الاجتماعي يُركزون على تحليل الأسلوب الذي يتصرف به الفاعلون الأفراد أو يتفاعلون به فيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى
ج- التفاعلية الرمزية
تعنى هذه المدرسة بالقضايا المتصلة باللغة والمعنى. فالكلمات التي نستعملها للإشارة إلى أمور محددة هي رموز تمثل المعاني التي نقصدها، كما تشمل الإيماءات، وأشكال التواصل الأخرى. إن التفاعُليّة الرمزية تُوجّه انتباهنا إلى تفصيلات التفاعلات الشخصية، وينوه منظرو هذه المدرسة بالدور الذي تؤديه هذه التفاعلات في خلق المجتمع ومؤسساته
—————————————————————————————————————————————-
استنتاجات حول مجزوءة المعرفة
إن المعرفة ليست مُعطى جاهزا، بل هي عملية بناء مستمرة تتم بطريقة تفاعلية بين الذات والموضوع، تقوم بها الذات العارفة، بشكل منهجي، اتجاه موضوع المعرفة بالاعتماد على قدرات عقلية ومهارات ذهنية
تتمثل الموضوعية في المعرفة الإنسانية على مستوى الحقيقة العلمية، سواء الرياضية أو التجريبية، أو الإنسانية، التي تعبر عن الواقع في استقلال عن تدخل الذات مستعينة بمناهج اختبارية تتأسس على التجريب، والصياغة الرياضية، كما تدرس الإنسان بعيدا عن الآراء الشخصية والأذواق وتأملات الذات
ليست هناك تعليقات